البندقية 82 - "يتيم" ينبش في ذاكرة طفل المآسي - هرم مصر

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
البندقية 82 - "يتيم" ينبش في ذاكرة طفل المآسي - هرم مصر, اليوم الثلاثاء 9 سبتمبر 2025 07:05 مساءً

هرم مصر - بعد "ابن شاوول" و"غروب"، جاء الفيلم الثالث للمخرج المجري لاسلو نمش محاطاً بترقّب كبير، لا سيما لدى أولئك الذين يرون فيه فنّاناً متكاملاً، يستحق المتابعة لرصد تحوّلاته وتطوّره مع الزمن.

"يتيم"، عمله الأحدث، الذي عُرض في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي الأخير، فيلم يتنفّس "السينما" بكثافة بصرية واحساسية نادرة. فيلم خارج الزمن والتيارات والرائج والمثير والملّح، لا يمتّ بصلة إلى معظم ما شاهدناه هذا العام ضمن المسابقة، ولا يتغذّى من الراهن ولا من النشرات الإخبارية، على خلاف عدد من الأفلام التي تستثمر في مآسي الحاضر.

ورغم أن "يتيم" لا يبلغ المستوى نفسه من العظمة الفنية التي ميّزت تحفة نمش الأولى، التي أبصرت النور في مهرجان كانّ قبل عشرة أعوام، فذلك ليس مستغرباً. خلافاً لعدد كبير من المخرجين، بدأ نمش مسيرته من القمّة، مقدّماً فيلماً تأسيسياً لطموحه السينمائي. ومن الطبيعي أن تبدو أعماله التالية، مهما بلغت من جودة، وكأنها دون ما سبقها. ثمة أيضاً تلك "اللعنة" التي تلاحق أصحاب البدايات اللامعة: توقّع الجمهور والنقّاد أن يعيدوا إنتاج الدهشة مرةً بعد أخرى، بالنبرة والحدّة والخصوصية نفسها.

 

بويتوريان باراباش في دور أندور.

 

كلّ لقطة في "يتيم" ثمرة رؤية واضحة وفكرة محدّدة وأسلوب مدروس. لا مجال للمصادفة أو الارتجال. كعادته، يلجأ نمش إلى الفيلم الخام (35 ملم)، وإلى الكبير ماتياس إلديري، حاملاً إيّانا معه إلى أعماق السينما، إلى مرحلة من تاريخها ستبقى محطّ عودة وحنين لدى كثير من السينمائيين: حيناً كتحية وفاء، وحيناً كوسيلة للهروب من العالم الرقمي الذي جعل صور الأفلام تتشابه إلى حدّ ما، وتفقد فرادتها ودفئها.

ومثلما فعل في أعماله السابقة، يعود نمش بنا إلى الماضي، وهذه المرة إلى خمسينات بودابست، مسقط رأسه، مستلهماً حكاية "يتيم" من تجربة شخصية وعائلية، تحديداً من سيرة والده. مجدداً، يلامس المخرج قضايا الصراع والصدمة النفسية والحرب وهي تيمات باتت تشكّل العمود الفقري لأعماله الثلاثة، إذ يمكن اعتبارها حلقات متّصلة تنبثق من واقع واحد: أوروبا القرن العشرين، أوروبا التي أنجبت والده وأنجبته، بكلّ ما تحمله من أهوال وانكسارات ومعاناة قاسية مدفونة تحت الحداثة.

هذه الأوروبا، بالنسبة الى نمش، لا تزال منجماً لحكايات عن نزع الإنسانية عن الناس. أما الذاكرة فتلفّها الأسئلة: كيف تُروَى؟ كيف تُحجَب؟ كيف تتوارثها الأجيال؟ غير أن كلّ هذا يحضر في "يتيم" بأسلوب بصري مختلف عن ذاك الذي اختبرناه في "غروب"، وقد يكون أكثر أفلامه سلاسةً على مستوى المُشاهدة، إذ لا يتطلّب من المتفرج مجهوداً كبيراً لفكّ شفراته الجمالية أو الدرامية، رغم أن الفيلم لا يزال مثقلاً بالسوداوية، ولا يمكن اعتباره "نزهة" بأي حال.

 

نمش في البندقية 82.

نمش في البندقية 82.

 

عقب الحرب العالمية الثانية، خرجت بودابست مدمّرة، على المستوى المادي والإنساني. تعرضت المدينة لدمار هائل، وسقط عشرات الآلاف من المدنيين، في ظلّ انتهاكات جسيمة ارتكبها الجيش السوفياتي. وفي الجانب الآخر من المأساة، عاش اليهود الناجون من المحرقة أوضاعاً مزرية. دخلت المجر تحت النفوذ السوفياتي، وتحوّلت تدريجاً إلى دولة شيوعية. ثم، في عام 1956، عندما اندلعت الثورة المجرية، سرعان ما قُمعت بوحشية في العام التالي. سُحِقت المقاومة الشعبية وبدأت موجة شرسة من الاعتقالات والإعدامات. في هذا السياق السياسي القاتم، تدور أحداث "يتيم" الذي يحرص على الاعتناء بالطفولة الرافضة للواقع المفروض عليها، في سعي دائم للامساك بزمام الأمور، خلافاً لما نراه عادةً في أفلام الحروب والنزاعات.

يركّز الفيلم على صبي يُدعى أندور (بويتوريان باراباش)، يعيش في ظلّ هذا الخراب العام. كان وُضع في ميتم خلال الحرب، قبل أن تستعيده والدته (أندريا فاشكوفيش) بعد انتهائها. الأب غائب عن الصورة، إلى أن يظهر فجأةً رجل غامض يدّعي أنه والده. انه جزارٌ يحمل ماضياً مريباً (يؤدّي دوره الممثّل الفرنسي غريغوري غادبوا في أداء مركّب وصادم).

يلقي هذا الظهور المفاجئ بظلّه الثقيل على أندور، فيغرق في دوامة شكوك وأسئلة. هذا "الأب" الغريب، الذي يبدو أن له تأثيراً قوياً على الأم، يثير في نفس الصبي شعوراً بالرفض وعدم الثقة. كيف يمكن أن يكون والده، بينما كانت له عائلة أخرى؟ يتصاعد غضب أندور، وتبدأ هويته في التفكّك وسط شبكة من الأكاذيب والتناقضات والحقائق المشوّهة.

 

بويتوريان باراباش وأندريا فاشكوفيش على السجّادة الحمراء.

بويتوريان باراباش وأندريا فاشكوفيش على السجّادة الحمراء.

 

لكن هذه الأزمة الوجودية التي يعيشها أندور لا تأتي من فراغ. فمنذ البداية، نشأ في ظلّ غياب الأب، الذي فُقد خلال الحرب، ولم يتبقَّ له منه سوى شذرات من الذاكرة: تذاكر باهتة، كتاب قديم، صورة… ظلّ الطفل متشبّثاً بوهم العودة، مقتنعاً بأن هذا الأب سيظهر ذات يوم. بين دار السينما التي تصبح ملاذه الوحيد من قسوة الحياة والعالم المتداعي من حوله، ظلّ أندور يعيش في انتظار الأب الغائب، كأن السينما باتت بديلاً من الحضور الأبوي أو محاولة لترميم الفراغ الكبير الذي تركه.
لكن الواقع يفرض منطقه القاسي ويجبره على مواجهة الحقيقة: الماضي، سواء ماضي العائلة أو ماضي الوطن، قد تهاوى بالكامل، وما عاد سبيل سوى التقدّم نحو المجهول.

لوهلة، قد لا تبدو القصّة مغرية، وقد ينحني ظهرها أحياناً تحت ثقل الطموح البصري والاستعادي والتشكيلي الذي يعتني به المخرج، لكن هذا منحى واضح في سينماه منذ البداية. نمش يشتغل على الذاكرة لا بوصفها وثيقة، ولذلك، فإن البنية السردية قد تأتي مفكّكة أو ذات إيقاع غير مألوف، لأن الاهتمام مكرّس أولاً وأخيراً لتوليد الإحساس، بدلاً من شرح ما يحدث.

هناك مَن يرى أن "يتيم" غارق في مخيلته، غير قادر على بلوغ أفق كوني يجعل حكايته مدخلاً لتأمّل إنساني أوسع. ورغم أن هذا قد يُؤخذ كنوع من النقد، ففي حقيقته، شكل من أشكال المديح: محلية نمش ليست انعزالاً بقدر ما هو التزام، وعمقه يأتي من هذا الانغماس في تربة المكان والزمان. وبقدر ما يحمل الفيلم من تماسك بصري وأسلوب متقن، إلا أنه قد يبدو وكأن فيه فيلمين: أحدهما يردّ على الآخر، يفسّره أو يشتّت أثره. وعندما ينتقل إلى نصفه الثاني، قد يشعر المُشاهد أن بعض ما بُني في النصف الأول بدأ يتفكّك. لكن هذا قد يكون مقصوداً، فهو يعكس ذلك التمزّق الداخلي الذي يعيشه الطفل.

في المحصّلة، نحن أمام حكاية أخرى من حكايات فقدان البراءة والبحث عن الذات في هذا العالم المنكوب. النهاية تأتي وحشية، دامغة، ترفع من الفيلم. صاعقة بما يكفي لئلا نخرج منه دخلناه.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق